دار الإفتاء المصرية :
والدى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسا من اهل النار
هناك من يقول : إن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين، وهما في النار، فهل هذا الكلام صحيح ؟
سبق أن بينا أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات، وتكلمنا عن مكانة هذه المحبة، وكان ذلك في إجابة السؤال رقم 34،
ويكفينا لمعرفة تلك المكانة حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»أخرجه أحمد في مسنده، ج3 ص 177، والبخاري في صحيحه، ج1 ص14.
ولا شك أن الحب يتنافى مع رغبة الإيذاء لمن يحب، ولا شك كذلك أن الحديث بسوء عن أبويه صلى الله عليه وسلم يؤذيه ،وقد قال تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }التوبة : 61.
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً }الإسراء : 57.
ولقد نهانا الله صراحة عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشابهة اليهود - لعنهم الله- في ذلك، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً }الأحزاب : 69.
قال القاضي : «فنحن لا نقول إلا ما يرضي ربنا، ويرضي رسولنا صلى الله عليه وسلم ولا نتجرأ على مقامه الشريف ونؤذيه صلى الله عليه وسلم بالكلام بما لا يرضيه صلى الله عليه وسلم» .
واعلم أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم وأجداده إن ثبت وقوع بعضهم فيما يظهر أنه شرك فإنهم غير مشركين؛ وذلك لأنهم لم يُرسَل إليهم رسول، فأهل السنة والجماعة قاطبة يعتقدون أن من وقع في شرك وبدل شرائع التوحيد في الفترة ما بين النبي والنبي لا يعذب، والأدلة على ذلك كثيرة ،
منها قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }الإسراء : 16.
وقوله سبحانه : { ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ }الأنعام : 131.
وقوله تعالى : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ }الشعراء : 208.
وقوله عز وجل : { رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }النساء : 156.
فلا تقوم الحجة على الخلق إلا بإرسال الرسل، وبغير إرسال الرسل فالبشر غير محجوجين برحمة الله وفضله.
هذه الآيات تدل على ما يعتقده أهل الحق أهل السنة والجماعة، أن الله برحمته وفضله لا يعذب أحدًا حتى يُرسل إليه نذيرًا، وقد يقول قائل لعل أبوي النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم نذير، وهم أشركوا بعد بلوغ الحجة، فهذا لا يسعفه نقل، بل جاءت النصوص تنفيه، وتؤكد عكس ذلك،
قال تعالى : { وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } سبأ : 44.
وقال سبحانه : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } القصص : 46.
وقال عز وجل : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } القصص : 59.
فدلت النصوص السابقة على أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم غير معذبين، لا لأنهما أبويه صلى الله عليه وسلم؛ بل لأنهما من جملة أهل الفترة التي علمنا من هم، وحكمهم بما استقر عند المسلمين،
قال الشاطبي: «جرت سنته سبحانه فيخلقه : أنه لايؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل ، فإذا قامت الحجة عليهم؛ فمنشاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولكل جزاء مثله» (الموافقات، للشاطبي، ج3 ص 377.)
وقال القاسمي في تفسيره لقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }الاساء :16.
ما نصه : «وما صحَّ ، وما استقام منا، بلاستحال في سنَّتنا المبنية على الحِكم البالغة، أن نعذِّب قومًا حتى نبعث إليهمرسولًا يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال؛ لإقامة الحجة، وقطعًا للعذر »
قال ابن تيمية : «إن الكتاب والسنة قد دلت على أنالله لايعذب أحدًا إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة، لم يعذِّبه رأسًا،ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل، لم يعذِّبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجةالرسالية»مجموع الفتاوى، ج13 ص 493.
أما ما يدل على نجاة أبويه بخصوصهما دون الدليل العام الخاص بأهل الفترة فهو قول الله تعالى : { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } الشعراء : 219.
،فعن ابن عباس رضي الله عنهما - في قوله تعالى : { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }- قال : أي في أصلاب الآباء آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيًّا .
وعن هذا فعن واثلة بن الأسقع ؛أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»أخرجه أحمد في مسنده، ج4 ص 107، ومسلم في صحيحه،
وعن عمه العباس رضي الله عنه ؛أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير قرنهم، ثمّ تخيَّر القبائل فجعلني من خير قبيلةٍ، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسًا وخيرهم بيتًا»أخرجه أحمد في مسنده، ج4 ص 165، والترمذي في سننه،
فوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصوله بالطاهرة والطيبة وهما صفتان منافيتان للكفر والشرك، قال تعالى يصف المشركين : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ } التوبة : 28.
أما ما يثيره المخالفون بسبب ورود حديثين آحاد يعارضان ما ذكر من الآيات القاطعة،
وهما حديثا مسلم : الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي»أخرجه مسلم في صحيحه، ج2 ص 671.
والثاني : أن رجلاً قال : يا رسول الله، أين أبي ؟ قال: «في النار» . فلما قَفَّى دعاه. فقال : «إن أبي وأباك في النار»أخرجه مسلم في صحيحه،ج2 ص 671.
فالرد عليهم كالتالي : أولاً : أن الحديث الأول ليس فيه تصريح بأن أمه صلى الله عليه وسلم في النار، وإنما عدم الإذن في الاستغفار لا يدل على أنها مشركة، وإلا ما جاز أن يأذن له ربه عز وجل أن يزور قبرها، فلا يجوز زيارة قبور المشركين وبرهم.
ثانيًا : أن الحديث الثاني يمكن حمله على أنه كان يقصد عمه؛ فإن أبا طالب مات بعد بعثته، ولم يُعلن إسلامه، والعرب يطلقون الأب على العم، كما في قوله تعالى عن إبراهيم : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً }الأنعام : 74.
وأبو إبراهيم هو تارح، أو تارخ كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره من المفسرين.
أما إذا رفض المخالف ذلك التأويل وأراد الاستمساك بظاهر النص في الحديث الثاني، حيث لم يسعفه ظاهر النص في الحديث الأول، فنقول : نزولاً على كلامكم وإذا اعتبرنا أن الحديثين دلا على أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم غير ناجيين، فإن ذلك يجعلنا أن نرد الحديثين لتعارضهما مع الآيات القاطعة الصريحة التي تثبت عكس ذلك مما مر، وهذا هو مذهب الأئمة والعلماء عبر القرون، وقد نص على هذه القاعدة الحافظ الخطيب البغدادي حيث قال : «وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متصل الإسناد رد بأمور : أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ»
ورد المحدثون كالبخاري والمديني حديث : « خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» أخرجه مسلم في صحيحه، ج4 ص 2149.
وقد ردوه لأنه يعارض القرآن ،كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره ؛لقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } الأعراف : 54.
وكذلك فعل الإمام النووي رضي الله عنه عندما رد ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها ؛حيث قالت : « فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر» أخرجه البخاري في صحيحه، ج1 ص 137، ومسلم في صحيحه،
ورغم أنه متفق عليه لم يتهاون الإمام النووي في رد ظاهره؛ حيث ذكر : «أن ظاهره أن الركعتين في السفر أصل لا مقصورة، وإنما صلاة الحضر زائدة، وهذا مخالف لنص القرآن وإجماع المسلمين في تسميتها مقصورة، ومتى خالف خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعًا وجب ترك ظاهره» المجموع، للنووي، ج4 ص 222.
فليختر المخالف أيًّا من المسلكين إما التأويل وهو الأولى ؛لعدم رد النصوص .وإما رد هذه الأخبار الآحاد لمعارضتها للقطعي الصريح من القرآن الكريم، وهو مسلك الأئمة الأعلام . وعلى أية حال فلعله قد ثبت أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ناجيان، بل جميع آبائه صلى الله عليه وسلم رزقنا الله حبه، ومعرفة قدره صلى الله عليه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والله تعالى أعلى وأعلم.
المصدر : دار الإفتاء المصرية
إرسال تعليق