| 0 التعليقات ]


رسالة إلى مشجع كرة القدم

"إليك يا مَن عشقتَ رياضة كرة القدم فصارت لك هواية، وتعلقتَ بلاعبيها فكنتَ لهم مشجعاً..
إليك يا مَن لا حماس للاعبين بدونك، ولا انتعاش لهم من غير تشجيعك..
إلى كلّ مَن يحب الرياضة ويشجعها، ويؤازر ذويها، ويدفعهم إلى الفوز فيها.."
إنّ الرياضة يمكن أن تتحوّل إلى طاقة فاعلة بما تحدث من تسلية طيبة وترفيه مباح يعيد للنفوس نشاطها فتعطي وتؤدي ما يُطلب منها على أكمل وجه وأتمه، وقد عُلِم النبي صلى الله عليه وسلم – وهو الرحمة المهداة – ما يعتري النفس البشرية من ملل وسآمة إذا ما كانت تسير على وتيرة واحدة دون وقوف للراحة والترويح، واعتبر ذلك الوقوف نوعاً من التزود لرحلة الحياة والعمل الصالح والإنتاج، فقال: "روِّحوا القلوب ساعة وساعة".
أي أريحوها بعض الأوقات من مكابدة العبادات بمباح لا عقاب فيه ولا ثواب.

 بعض أسباب الإسراف في مشاهدة وتشجيع كرة القدم..

إنّ القلوب تملّ والنفوس تتوق عادة إلى التغيير ليتجدد نشاطها، والحياة عامة في هذه الأيّام قد أخذت طابعاً مختلفاً عن ذي قبل، إذ يتعرّض فيها المرء إلى صور متنوعة من الضغوط النفسية الكثيرة، ويعايش أشكالاً متعدّدة من الأحداث الدموية تحيط به في شتى بقاع الأرض، فهناك ضغوط مادية وأزمة إقتصادية على مستوى العالم يمر بها الجميع، وهناك ضغوط العمل التي لا يستطيع الفكاك منها، وواجبات التعليم ومتطلّباته، وحقوق الأهل والأولاد والأقارب والأرحام، وحقوق إجتماعية للجيران والأصحاب والمجتمع، يتزامن هذا كلّه مع غلاء الأسعار وزحمة المواصلات وكثرة الطلبات، كما أنّنا نمر بأحداث يشيب من هولها الوالدن، قتل وذبح وتهجير وتشريد، سفك دماء وخراب بيوت، سجون ومعتقلات، تعذيب وسرقة للأعضاء، أنين الجرحى وآهات الثكالى وبكاء الأيتام، زلازل وفيضانات وسيول وأعاصير، هدم وحرق وغرق، أمراض وأوبئة وفيروسات، تطاول البعض على الدين ونبي الرسالة (ص).

كل هذا نعاصره ونسمع عنه وكأنّنا نراه رأي العين؛ إذ تلاحقنا أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة بالأخبار ليل نهار أينما كنا، ويكاد المرء منّا ينام على أصوات هؤلاء المنكوبين ويصحو عليها، أضف إلى ذلك ارتفاع نسبة البطالة وزيادة أوقات الفراغ خاصة عند كثير من الشباب الذين لا يجدون عملاً، ولا يحسنون استغلال أوقاتهم، ويفتقدون الموجّه القدوة، فتمتلئ بهم المقاهي والشوارع، وهم مَن يلتهبون حماسة وحمية في هذه الفترة الزمنية المهمة من حياتهم، وفي ظني أن هذا من أهم أسباب الإسراف والإنشغال بكرة القدم الذي زاد عن حده في هذه الآونة، حيث صار وسيلة للتنفيس والهروب، ومَدعاة لأن يصرف المشاهد ذهنه عن كلّ شيء حوله ويفرغه من مشكلاته، وينسى فيها مشاغله ولو إلى حين، وإن كان الأصل فيها أنّها رياضة محبوبة يقضي معها الهواة فراغهم بشروط، وأداة للتسلية والترفيه بضوابط، وعامل مساعد على تغيير روتين الحياة اليومية؛ لكن بإعتدال وبلا إسراف، ودون تضييع لحق أو تأخير فرض أو تعطيل واجب.

- مهلاً.. يا مشجع الكرة:

وكأنّ الجميع في هذه الأجواء الساخنة مع ما يعتصم به الكثيرون من اللجوء إلى الله تعالى أن يفرج الأزمة وينصف المظلوم من ظالمه، ومع ما يفعله معظم الغيورين منهم من احتجاج ومسيرات يعبرون فيها عن سخطهم، وينادون بالعدل والمساواة الإنسانية مع كلّ الشعوب في الأرض، ويطالبون بردّ الحقوق إلى أصحابها، إلا أنّهم يجدون في متابعة مباريات كرة القدم متنفساً تستهويه نفوسهم ينقلهم من عالم الحقيقة إلى عالم اللعب والخيال! ومع ذلك نرى بعض المشجعين يصبون جام غضبهم على الفريق المناوؤ لفريقهم، حتى يخيل إليك أنّهم في معركة حقيقية وكأنّه خصم لدود قد تسبب في مشكلات العالم كلّها، أو أنّهم يتوهمون أن فوز فريقهم هو النصر بعينه، وهو الفوز على الأعداء في ساح الوغى!

إنّ حبّ الرياضة يدعوك – يا مَن تشجعها – لممارستها وتشجيع مَن يمارسها دون غلوّ أو إسراف، لكنا نرى كثيراً ممن يحب كرة القدم ينتمي لفريق معيّن اختاره، ويفتخر بالانتساب إليه ويعلنه بنفسه وإلا فبمظهره وملابسه الرياضية التي يرتديها؛ حيث تحمل الاسم والشعار واللون لهذا الفريق أو ذاك، ومع عدم الوعي الكامل بتعاليم الدين السمحة وأخلاقه الجميلة تتكون أحزاب من الفرق الكروية كل يروج لحزبه ويدعو إليه ويختصم من أجله ويجاهد حتى الموت في سبيله، بل ويتحوّل إلى إرهابي في وجه إخوانه يرهبهم بقوله وفعله؛ فيكسر ويضرب ويجرح ويؤذي ويتعصب حمية كحمية الجاهلية أو أشد، فلا يتورع عن ذلك أو بعضه ولو أدى به الأمر إلى وقوع الفتنة بين الأخ وأخيه، وهما من يربطهما أوثق العرى، عروة الإسلام والإيمان، كما حدث في الأيّام القليلة الماضية.

ويأخذ التحيز لفرقة ضد أخرى أشكالاً يندى لها الجبين على المستوى المحلي والدولي، فلماذا لا تُوظف هذه الروح الرياضية بالشكل المناسب المطلوب؟ ولماذا يوصِل الغلو إلى هذه الحال المزرية التي يضيع معها الغرض من هذه الرياضة ويُساء فيها فهْم التشجيع الذي يصل بصاحبه إلى التطرف ويأخذه إلى العنف ويدعوه إلى التخريب.. فيميل كلّ الميل وكأنّه صاحب مذهب يقدسه لا يريد له مساساً، أو مَلَك معصوم لا سبيل لخطئه، تأخذه الحمية حتى مع لاعبي فريقه المختار أحياناً؛ فيرضى عنهم إن فازوا وأحرزوا الأهداف، ويسخط عليهم إن لم يشبعوا غروره بالغلبة، وما علم أن الغرض من الرياضة هو رياضة النفوس وقوة الأبدان، وأنّ التنافس فيها يعني أن هناك غالباً ومغلوباً، وما وطّن نفسه على قبول الهزيمة كما يقبل النصر، ولم يعوّدها الرضا بالقدر خيره وشره والاستسلام للقضاء حلوه ومره، فهذا ركن ركين من أركان الإيمان لا يقوم إيمان المسلم إلا به.

يدّعي حبّ الرياضة وأبطالها وينقض ذلك بأفعاله؛ إذ يسبّ اللاعب إن أضاع فرصة، أو يشتمه إن خانته الكرة فلم تدخل المرمي، فلماذا لا تكون منصفاً عادلاً أيها المشجع فتحسب الإيجابيات كما تتصيد الأخطاء؟ ولماذا تقبل إحراز الهدف ولا تعذر إن أخطأ؟ أليست هذه هي الرياضة؟ فهل رأيت فريقاً واحداً ملَكَ الأهداف كلّها فأحرزها وحده، وفاز في كلّ المباريات فلم يُغلب، وحصل على كأس العالم فيها طول العمر؟ إنّ هذا شيء محال، حتى ولو حدث فلن يدوم؛ لأن سنّة الحياة التغيُّر وعدم الثبات، وسِمتها الدوران والتداول، ليس في كرة القدم فحسب، بل في أحوال الناس المختلفة، ومن أجل ذلك لا ينبغي أن يكون مشجع الكرة بذيء اللفظ سيِّئ الخلق سليط اللسان، لا يسلم من أذاه لاعب أو مدرّب أو حكم أو مشجع لفريق آخر غير فريقه.

- إياك والتعصب.. والعنف.. وسوء الخلق:

فيا مَن وجدتَ في الانشغال بمتابعة كرة القدم بديلاً وشاغلاً لأوقات فراغك، وهدفاً تتشبث به وتعطيه جزءاً كبيراً من وقتك واهتماماتك، يا مَن تحاول أن تعلن في تشجيعها عن ذاتك، وتفصح فيها عن أخلاقك، وتثبت بالتعصب لها وجودك، وتتخذ من متابعتها هواية ومتنفساً، فأسرفت في المتابعة حتى الهوس، وجاوزت الحد في التشجيع حتى التعصّب، تعادي في سبيلها من يخالفك وتدنس لسانك بما لا يليق بك كمسلم، فصرت غضوباً متعصّباً عنيفاً مخرِّباً، وظننت أنّك في معركة المصير النهائية، مدعياً بذلك حبّك للرياضة.

أما علمت أن لهذه الرياضة شروطاً ولتشجيعها ضوابط حتى يتحقّق الغرض منها في ظل الخُلُق الجميل الذي يأمر به ديننا، ألا تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء"، سنن الترمذي
وقوله صلى الله عليه وسلم  "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت"،صحيح البخاري
وقوله صلى الله عليه وسلم  " ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن فإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء "،سنن الترمذي
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟
فقال :" تقوى الله وحسن الخلق "، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ، قال :" الفم والفرج" سنن الترمذي
وهلا علمت أنّ العنف ممقوت مذموم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنّ الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه "، رواه مسلم
 وأن "من يحرم الرفق يحرم الخير كلّه".

إنّ هناك من يؤدي به فوز فريقه إلى التخريب والتكسير والتلفظ بالألفاظ النابية وإشعال نارٍ العداوة والبغضاء، وتوصله هزيمته أيضاً إلى كل ذلك، وكأنّ الأمر عنده سواء، المهم أن يُخرج ما في نفسه من مشاعر إيجابية أو سلبية على السواء وليكن بعدها ما يكون، أما علمت أنّ الإسراف في أي شيء النبي صلى الله عليه وسلم : "ليس منا من دعا إلى عصبية"، أي من يدعو الناس إلى الإجتماع على عصبية.
 قال ابن الأثير: العصبي الذي يغضب لعصبيته ويحامي عليهم، والتعصيب: المدافعة والمحاماة. وقال ابن تيمية: بين بهذا الحديث أن تعصب الرجل لطائفة مطلقاً فعل أهل الجاهلية محذور مذموم، بخلاف منع الظالم وإعانة المظلوم من غير عدوان فإنّه حسن بل واجب. وقد يقول قائل: إنّني أشجع بلدي وأحبها وما أفعله إنّما هو من أجلها! وما أجمل هذه الروح الطيبة، روح الإنتماء، وقد قيل: إنّ حبّ الوطن من الإيمان، وهذا شيء طيب، وأطيب منه ألا تسيء لوطنك بتلك الأفعال المنكرة من التجمّع والتحزب كالعصابات وإثارة الناس بالشغب والفوضى والتنديد بالغير وترديد الشعارات والهتافات المضادة المثيرة للفتنة، وفي ظني أنّ هذا يدخل تحت التعصب الممقوت والحمية الجاهلية التي تفرّق ولا تجمع، وهو بعينه ما يريده لنا أعداء أُمّتنا في كل زمان حتى ننسى قضايانا المهمة ونغفل عنها، لذا فنحن جميعاً على المستوى الفردي والجماعي مأمورون شرعاً بالإعتدال والتوسط في أمرنا كلّه.

- دعوة.. وأمل..

إلى كل مشجع.. لا تعط كرة القدم أكثر من حقها فتكون لما عليك من واجبات جائراً ظالماً، ولا تسرف في مشاهدتها فتكون لوقتك وعمرك مبدداً مضيعاً، ولا تتعصّب في تشجيعها فتقع في الغلو الممقوت، وكن معتدلاً معها متابعة وتشجيعاً تخرج من دائرة الإسراف المحرم، وانظر حولك وتفكر في قضايا أُمّتك المهمة، أليس فيها ما يشغلك ويستوقفك ويستوجب اهتمامك ويتطلّب دعمك وعطاءك؟ فاتق الله وأعطها ما تستحق من الاهتمام ويتطلّب دعمك وعطاءك؟ فاتق الله وأعطها ما تستحق من الاهتمام والمشاركة الإيجابية الفعالة، حتى تُعذر أمام ملك الملوك سبحانه وتعالى.

- حكم مشاهدتها:

يقول سماحة المستشار فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء:

"ممّا لا شكّ فيه أن المباريات الرياضية تأخذ اليوم حجماً أكبر بكثير مما يلزم خاصة في بلاد المسلمين، وتستعملها كثير من الأنظمة لإبعاد الناس عن المشاركة السياسية ولتنفيس المشاعر المحتقنة بسبب الكثير من الممارسات الشاذة.

إنّنا أُمّة منكوبة وأُمّة ممزّقة وأُمّة متخلِّفة، هذه قضايانا الأساسية التي يجب أن تبذل فيها الجهود قبل هذه المظاهر المباحة، ولذلك، فإني أدعو الشباب خاصة إلى أن يكون أكثر جدية في حمل هموم المجتمع وقضايا الأُمّة، وإلى أن يكون أكثر إيجابية في العمل المنتج وألا يعطي لمثل هذه الأعمال المباحة أكثر من حجمها الطبيعي المفروض في حياته الشخصية وفي حياة الأُمّة.. والله أعلم" (إسلام أون لاين).

فهيا قدِّم دليل إيمانك وعلامة صدقه..

وأعدّ للسؤال جواباً.. قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الحجر/ 92-93)،
(وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل/ 93).

عدد التعليقات على:" رسالة إلى مشجع كرة القدم" : "0"

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة